كريم سيفو، الرسم بوصفه وسيلة للكشف عن الجمال ضد الموت والشر

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
26/12/2010 06:00 AM
GMT



يستند السطح التصويري الذي يتعامل معه كريم سيفو راهناً الى عناصر اساسية ظلت تنمو بعيداً عن انظارنا كمتلقين أو ظلت تتراكم لسنوات دون ان ننتبه لها، كانت تتكرر في ما مضى جزيئاً أو بمفردات محورة ثم سرعان ما يعود السياق الاسلوبي ليهيمن عليها ويعيد ترتيبها على ذلك السطح،لا استطيع بالطبع أن أعقد أية مقارنة منصفة ومنطقية بين بنية اللوحة التي كان ينفذها في الثمانينيات وبنية لوحته الآن، برغم أن لوحة الماضي قد اعيد تفكيكها واعادة استخدامها في رسومه الحالية، كان مثل مؤلف قصص قصيرة في كل منها شخص واحد انتقل ليكتب رواية متعددة الاجزاء فيها مئات الشخصيات.
 
علي أن اعترف إن اعماله في تلك السنوات )أي الثمانينيات وما تلاها( قد أثارت انتباهي بقوة، كانت طرازاً جديداً في الرسم العراقي بطاقتها التعبيرية ورمزيتها وطرازها التنفيذي المتقن، أتذكر إن الأشكال الأساسية في تلك اللوحات )وهي إما لرجال آليين أو لتماثيل أو لدمى( كانت تحلق في فضاء ضيق وكانت تبدي أقل ما يمكن من ردود الأفعال تجاه ما كانت عليه، كانت صامتة وسلبية بمظاهر خارجية غريبة لا يمكن ان تكون قد استمدت من المحيط الذي كان من المفترض ان تعبر عنه أو تشير الى عناصره المادية والفكرية، أكثر من ذلك لقد بدت كأنها تستسلم لمقدرات عالم سفلي مظلم يسحبها اليه، كانت الى حد ما نوعاً من النبؤة لما سيحدث لاحقاً مثلما كانت ايضاً تجسيداً لما كان يحدث في تلك السنوات.
كان سيفو عبر رسومه تلك مخلصا لما تعلمه في باريس وكان يكرر بشكل ما تقليداً مألوفاً في الرسم العراقي، إتبعه بعض اسلافه من الرسامين منذ الاربعينيات، في أن يقتبس كل منهم طرازاً تنفيذياً متداولاً في الغرب ويعيد انتاجه عراقياً، أن يُغْني المشهد التشكيلي الذي ظل يتسع وتتعدد مصادره واشتغالاته واساليبه التنفيذية بلمسة أو زاوية جديدة للنظر، كان ذلك يتم عبر اخفاء المصدر الذي تم الاقتباس منه احياناً أو بإختيار بعض عناصره وتمويهها وإعادة صياغتها بملامح محلية، وبالطبع كان ذلك امراً يحدث بشكل تلقائي نتيجة لهيمنة السياق الغربي وتقاليده على حركات الرسم في العالم، كما كان ينتج ايضاً عندما تصل الاساليب المحلية الى مستوى من النضج لا تقدم شيئاً بعده وتبدو كأنها بحاجة الى محفزات جديدة مقتبسة لكي تعيد تقويم معالجاتها واكتشاف مديات أخرى لها يمارس من خلالها الرسامون حرياتهم أو يؤكدون مهاراتهم، كما إنه حالة تلقائية تتولد عن ظروف واشتراطات التتلمذ في الغرب وماهية العلاقة بين المركز والهامش والمشاكل والصياغات المتولدة عن ذلك.
 
في تلك السنوات كان سيفو يستعير صياغات واشكالاً من مصادر مختلفة ويعيد وضعها في بيئة محلية عراقية، يعيد تأليف عناصرها من جديد لتتلاءم مع الذائقة المحلية وبالطبع لم يكن قد توصل في البداية لحلول ناجحة لمحاولته تلك ولكنه ظل يحاول ويكرر المحاولة بإستمرار، كان يبدو كأنه مولع بحرفته كرسام وصانع اشكال قبل كل شيء، ومن ثم تأتي عناصر اللوحة الأخرى بدرجة أدنى ومن ذلك النسيج الروحي أو التعبير عن رؤية فلسفية أو منهج فكري، أستطيع أن اشير الى حرفيته العالية في رسم البورتريه، مثلاً وهي مهارة كان يطوعها ضمن مساحته التصويرية الكبيرة نسبياً، ولكنه لم يكن يكتفي بها ليؤكد تفرده بين الرسامين الآخرين.
 
بدا سيفو دائماً وخصوصاً في مرحلة نضجه اللاحقة التي تلت معرضه الشخصي الأول ) قاعة الرواق في بغداد-1990 والذي يمكن اعتباره نقطة تحول اساسية في مساره المهني والرؤيوي (كأنه تمكن من ايجاد توازن بين ما يمتلك من مهارات وما يطمح اليه كرسام معاصر، بدا في تلك المرحلة الزمنية ايضاً كأنه لا يشبه أحداً بين أقرانه الرسامين، لا ممن سبقوه ولا من مجايليه أيضاً، لقد ظل معنياً بتطوير مشروعه الذاتي بإغناء عناصر السطح التصويري الذي يشتغل عليه واكسابه مفردات جديدة بل إعادة تكوين بنيته وتأكيد حيويته وقابليته على الاستجابة لما يريد، إن ذلك لا يعني أن سيفو قد انسلخ عن البيئة الثقافية التي ظل يعمل في اطار قوانيها وتقاليدها منذ البداية كما لا يعني من جانب آخر انه قد قام بتفتيت عناصر لوحته السابقة واعاد تغيير مواقع تلك العناصر وقام بلصقها من جديد لكي ينتج اشكالاً فنية جديدة، لقد ظل صريحاً في الكشف عن استعاراته واقتباساته والاطارات النظرية التي تعبر عنها، لم يكن يموه على مصادره الشكلية ولا الرؤيوية منذ البداية وهذه احدى اهم ميزاته رساماً ، لقد ظلت العناصر التي يستمدها من مصادر مختلفة، ومن بين ذلك ما كان يراه في مشاهداته الاركيلوجية المتحفية )، كما يشير في نص مكتوب له( تنمو على مساحة السطح التصويري وتتغير علاقاتها وسماتها الظاهرة بشكل تلقائي لتدخل في علاقات جديدة، كان سيفو يستغل مقدرته التصميمية لإعادة تكوين بيئة مناسبة لتلك العناصر، ان تأليفاته المتقنة، ومهارته في صياغة العلاقات بين الاشكال، تنمو في وسط من الاشارات والرموز والمفردات اللغوية والاشكال السحرية والرؤوس المقتطعة وآثار الأيدي والأصابع دون ان يتحول كل منها الى عبء على الشكل النهائي أو يخل بتوازنه، حتى عندما كان سيفو يطلق العنان لهواجسه ونزواته التجريدية فقد كان يمارس ذلك بحذر، لقد كان يوصل شطحاته اللونية في مساحات وخطوط محسوبة ومستقرة، وهي بقدر ماكانت تكتشف عن غليانه الداخلي فإنها كانت تؤكد نزوعه كمصمم لا يريد ان يتخلى عن القواعد التقليدية التي تتحكم في الصيغة النهائية للشكل.
 
ان سيفو الذي عاد الى باريس ثانية بعد ثلاثين عاماً من مغادرته لها، لم يعد امامه ما يتعلمه "بالمعنى الحرفي للكلمة" كما هو الحال عندما كان في عشرينياته، إنه الآن يعيد تأمل اسلوبه من جديد مثلما يعيد تأمل حياته، وهو يتخذ من الرسم ايضاً وسيلة يستعيد من خلالها توازنه وصفاءه الداخلي، يبدو كأنه يتخلص من النوستالجيا برسم مؤثراتها، لقد أصبح الوطن بعيداً مكانياً ولكنه ظل مصدراً للرسم، انه يستعاد الآن عبر الرموز، عبر إستبطان تلك الرموز واستيحاء نسيجها المفاهيمي، الرسم هو الحل اذاً، الرسم بوصفه وسيلة للكشف عن الجمال ضد الموت والشر، وبوصفه أيضاً وسيلة لإكتشاف معنى الحياة والبحث عن آفاقها اللانهائية، لم يعد الرسام وحده الى الغرب هذه المرة، لقد عاد الغرب إليه ايضاً، عاد إليه هذه المرة ليؤكد له تميزه رساماً وانساناً، كماعاد لكي يضعه في لحظة وعي فاصلة امام موروثه الحضاري بكل ما يحفل به من اشكال ومفاهيم ولقى ومشاكل ومآس، تاركا أمامه حرية الاختيار، وباعتقادي ان تلك مهمة عسيرة بقدر ما هي غامضة.